فضل العمل في الإسلام

حثّ الإسلام على العمل

يحتلّ العمل في التصور الإسلامي مكانة جوهرية وأساسية، إذ لم يكن يومًا أمرًا دنيويًا بحتًا منفصلاً عن البعد الإيماني أو الروحي، بل جعله الإسلام عبادةً من العبادات ووسيلةً للتقرب إلى الله، وركنًا من أركان بناء الأمة وازدهارها، ومصدرًا لصون الكرامة الإنسانية. وقد اعتنى الإسلام بالعمل بكل أنواعه وأشكاله: الفكري، اليدوي، التجاري، الزراعي، الصناعي، وغيرها، فجاءت نصوص القرآن الكريم وأحاديث النبي ﷺ لتؤكد هذا التوجه وتربط بين العمل الصالح والحياة الكريمة، وبين الجد والإنتاج وبين نيل رضا الله تعالى.

العمل في القرآن الكريم

جاء ذكر العمل في مواضع متعددة في القرآن الكريم، وغالبًا ما ارتبط بالجزاء والمحاسبة، سواء في الدنيا أو في الآخرة، مما يدل على مكانة العمل ومركزية دوره في حياة المسلم. يقول الله تعالى:

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105]، وهذه الآية توجيه رباني صريح إلى المبادرة بالعمل والجد والاجتهاد، مع الإشارة إلى الرقابة الإلهية والاجتماعية التي تحف هذا الفعل.

ويقول سبحانه أيضًا:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، فالعمل هنا مقرون بالإيمان، وهو السبيل للحياة الطيبة الكريمة، بما فيها من سكينة ورضا ورزق مبارك.

كذلك يشير القرآن إلى أن الجزاء الأخروي مرهون بالعمل:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ [الكهف: 107]، فالعمل ليس مجرد وسيلة معاش دنيوي بل هو طريق إلى الخلود في الجنة.

العمل في السنّة النبوية

من سيرة النبي ﷺ وأحاديثه يتبين مدى اهتمامه بتربية الصحابة على العمل والكسب الحلال. فقد كان النبي ﷺ يُعلّم أصحابه ألا يكونوا عالة على غيرهم، وألا يمدوا أيديهم للناس، بل يأخذوا بالأسباب، ويسعوا في الأرض لكسب الرزق.

جاء في الحديث الشريف:

“ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده” [رواه البخاري]. وفي هذا توجيه نبوي كريم إلى شرف العمل اليدوي، بل وتكريمه بإلحاقه بسيرة نبي من أنبياء الله.

وفي حديث آخر، قال النبي ﷺ:

“لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه” [رواه البخاري]. هذا الحديث يُظهر مدى حرص الإسلام على غرس روح العزّة في النفس البشرية، ورفض البطالة والتكاسل، ولو كان العمل بسيطًا أو متواضعًا في أعين الناس.

مكانة العمل في الفكر الإسلامي

العمل في التصور الإسلامي ليس مجرد نشاط مادي، بل هو منظومة متكاملة تشمل النية، والإخلاص، والصدق، والالتزام، والإتقان. وهو بذلك ليس فقط وسيلة للكسب المادي، بل وسيلة لتحقيق السكينة النفسية، والتوازن الاجتماعي، والنهضة الحضارية.

وقد قرر العلماء أن العمل عبادة إذا اقترن بالنية الصالحة. قال الإمام الغزالي: “العمل في طلب الحلال أفضل من كثير من النوافل”، وذلك لما فيه من حفظ للنفس والعيال وصيانة للمجتمع.

كما رأى الفقهاء أن ترك العمل مع القدرة عليه والاعتماد على الغير منهي عنه شرعًا، وهو مخالف للسنة. بل إن من شروط التكليف في الإسلام القدرة، وهذه تقتضي السعي والكسب والاجتهاد.

العمل والكسب الحلال

حرص الإسلام على التأكيد بأن العمل لا يكفي أن يكون مجرد نشاط مادي، بل يجب أن يكون مقترنًا بالحلال والنية الصالحة. فالكسب الحلال من أعظم أبواب البركة، وهو من أسباب إجابة الدعاء. جاء في الحديث الشريف:

“أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا” [رواه مسلم].

الكسب غير المشروع، وإن وفّر المال الوفير، فهو خبيث مردود على صاحبه، ويورث الشقاء وسوء العاقبة. لذا، جاء التشديد على تحري الحلال في جميع المعاملات.

صور العمل المشروعة في الإسلام

يُجيز الإسلام كل عمل نافع للناس، ما لم يكن فيه مخالفة للشرع، أو ظلم أو غش. ومن صور الأعمال المشروعة:

• الزراعة: قال النبي ﷺ: “ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة، إلا كان له به صدقة” [رواه البخاري].

• الصناعة: الصناعة من مفاتيح التقدم، وقد حث الإسلام على إتقانها. قال النبي ﷺ: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”.

• التجارة: كانت مهنة النبي ﷺ قبل البعثة، وأكد على التزام الصدق والأمانة فيها.

• التعليم: من أرقى أشكال العمل، وهو عبادة إذا احتُسب فيه الأجر ونُفع به الناس.

• الخدمة العامة: كالطب، والهندسة، والإدارة، وكل مهنة تسهم في بناء الأمة ونهضتها.

أثر العمل في بناء الفرد والمجتمع

العمل لا يثمر فقط على مستوى الفرد، بل يترك أثرًا عميقًا على المجتمع كله. فمن خلال العمل:

• يحفظ الإنسان كرامته، فلا يكون عالة على الآخرين.

• يتحقق التكافل الاجتماعي، إذ يصبح العامل منتجًا يسهم في دعم المجتمع.

• يُبنى الاقتصاد، فالعمل من مصادر الثروة الأساسية.

• تُقوّى الأمة، حيث إن المجتمعات المنتجة هي المجتمعات القوية.

إن المجتمع الذي يعمل فيه أفراده بجد وإخلاص هو مجتمع يتجه نحو الاستقرار والنماء، وتقل فيه نسب الفقر والبطالة والانحراف، وهو بذلك يحقق مقصدًا من مقاصد الشريعة في حفظ النفس والمال.

العمل والإتقان

الإتقان في العمل من القيم الإسلامية الراسخة. فالعمل دون إتقان مضيعة للجهد، وإهدار للموارد، وخيانة للأمانة. وقد ربط النبي ﷺ بين محبة الله وبين الإتقان فقال:

“إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”.

الإتقان لا يقتصر على العمل اليدوي أو الحرفي، بل يشمل الإدارة، والتعليم، والتجارة، وحتى العلاقات الاجتماعية. فالمسلم مأمور بالإخلاص، والجد، والانضباط في كل ما يقدمه.

نماذج من السلف في العمل

الصحابة والتابعون كانوا قدوة في الجد والعمل، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه تاجرًا، وعمر بن الخطاب يعمل في السوق، وعبد الرحمن بن عوف من أغنياء الصحابة الذين جمعوا بين العبادة والعمل.

وقد كان عبد الله بن الزبير يعمل في التجارة، وكان الحسن البصري يغزل الصوف ليكسب رزقه، وكل هؤلاء لم يتقاعسوا عن العمل رغم علمهم وفضلهم، لأنهم فهموا أن العمل عبادة ومسؤولية.

الفرق بين العمل والبطالة في الإسلام

البطالة في الإسلام ليست فقط تعطلاً عن الإنتاج، بل هي حالة من الخروج عن الوظيفة العمرانية للإنسان في الأرض. قال تعالى:

﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]، أي طلب منكم عمارتها.

البطالة تُعدّ فسادًا اجتماعيًا، وتؤدي إلى مشكلات اقتصادية ونفسية وسلوكية، مثل الجريمة، والانحراف، وانتشار الكسل، وتآكل الإنتاج.

العمل في مواجهة الفقر

العمل هو العلاج العملي للفقر، فقد ربط الإسلام بين العمل والغنى، فقال النبي ﷺ:

“لو أن أحدكم يحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه”.

الفقر لا يُحارب بالاتكال أو بمدّ اليد، بل بالسعي الحثيث نحو العمل، واكتساب المهارات، وتطوير الذات، والإفادة من الفرص المتاحة.

أهمية العمل للمرأة في الإسلام

أباح الإسلام للمرأة العمل، بل شجعها على ذلك ضمن ضوابط شرعية تحفظ كرامتها وعفتها. فقد عملت النساء في عهد النبي ﷺ في التمريض، والتعليم، والزراعة، وغيرها. ومن أبرزهن الصحابية رفيدة الأنصارية، التي أنشأت مستشفى ميدانيًا في عهد النبي ﷺ.

المرأة العاملة، حين تراعي حدود الله، تسهم في بناء الأسرة والمجتمع، وتحقق ذاتها، وتخفف العبء عن زوجها وأسرتها.

جدول يوضّح مكونات العمل الصالح في الإسلام:

خاتمة

لقد أولى الإسلام العمل مكانة رفيعة، فجعله فريضة من فروض الحياة، وطريقًا لبلوغ الكمال الإنساني. ولم يكن العمل في المفهوم الإسلامي مجرد نشاط دنيوي، بل وسيلة لبناء النفس، وإعمار الأرض، وتحقيق العبودية الحقة لله. ومن خلال النصوص الشرعية والتوجيهات النبوية، يتجلى أن العامل المجتهد في سبيل الحلال، هو في مقام المجاهد، بل وأحيانًا أعلى، لما في عمله من منفعة عامة، ووقاية من الحاجة، وصون للكرامة.

المراجع:

• القرآن الكريم.

• “صحيح البخاري” و”صحيح مسلم” – أحاديث متعلقة بالعمل والكسب.